الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة مسيرة عملاق لم تكتمل: معطيات خالدة عن الراحل المنصف السويسي ورسائله وأمانيه وأجمل ما قاله

نشر في  09 نوفمبر 2016  (10:17)

 فقدت الساحة الثقافية بتونس يوم الأحد 06 نوفمبر الفنان المسرحي الكبير المنصف السويسي الذي توفي بعد صراع طويل مع مرض السرطان هذا الغول الأمي الجاهل الذي باغته وهو في أوج عطائه ليرحل عنّا تاركا أثرا عظيما سيخلّده أبد الدهر فكيف لا وهو الإنسان المثقف المتواضع الذي أحب تونس بكل جوارحه وهو المسرحي الكبير الذي ترك حزمة من الأعمال التي ستحّدث الأجيال الحاضرة واللاحقة عنه وعن عشقه للثقافة والمسرح؟
 الراحل منصف السويسي، وما أصعب أن يسيل الحبر كتابة لعبارة «الراحل» عن هذا المبدع أو نطقها عنه وهو الإنسان «الحي أبدا» الذي لطالما كره الرحيل ولم يؤمن به حيث أنه لم يكن يخشى الموت أبدا فقد أخبرنا في حديث أجرته أخبار الجمهورية معه قبل أن تتوفاه المنية انه يحب الموت ولا يخشاه وكله شوق لاكتشاف ورؤية عوالم أخرى على حد تعبيره ..
السويسي أخبرنا أيضا أن الذي يموت بالنسبة إليه سوى الحيوان، أما الإنسان فلا يموت أبدا خاصة إن ترك أثرا يخلّده من بعده، مؤكدا أن ثمار الجهد الذي تركه من أعماله ستكون أثرا ويصبح خبرا يخلّده من بعد. وقال»نحن الفنانون لا نموت».
أخبار الجمهورية بهذه المناسبة المحزنة ارتأت إعداد ملف يلخّص مسيرة المسرحي الكبير منصف السويسي التي كتبها بخط يده ونشر أجمل أقواله التي باح لنا بها وكيف حدّثنا سابقا عن المرض والحياة والموت وعن أمنيته التي تمنى تحقيقها ورسالته التي وجّهها..

سيرته الذاتية كما كتبها بخط يده..

في البداية ارتأينا نشر سيرته الذاتية التي كانت بحوزة أخبار الجمهورية وهي التي كتبها بخطّ يده وأرسلها إلى وزارة الثقافة ضمن وثائق الملف المطلوب لدعم مسرحية «دراما» للإعلامي المنصف بن مراد، وهي العمل الذي أعرب الراحل عن شغفه بإخراجه وان يكون تتويجا لأعماله المسرحية لكن المنية لم تسعفه فرصة تحقيق هذا الحلم الذي مثّل هاجسه في آخر أيام حياته فباغته الموت الذي أفقد الساحة الساحة الثقافية التونسية رمزا من رموزها وعمودا شاهقا من أعمدتها..
 وفي سيرته الذاتية أكّد المسرحي الكبير المنصف السويسي انه يعد من صنّاع المسرح التونسي ومستشارا ثقافيا وخبيرا مسرحيا دوليا، وهو أستاذ جامعي في علوم المسرح وتقنياته لدى عدة جامعات وخاصة تونس والكويت وقطر والإمارات وغيرها...
 وهو مؤسس الفرق الجهوية: الكاف سنة 1967 وقفصة سنة 1972 والقيروان سنة 1974، وكان مديرا لفرق مسرحية بالكاف من سنة 1967 إلى سنة 1976 وبصفاقس سنة 1974 وفرقة مدينة تونس من سنة 1976 إلى سنة 1979..
وكان الراحل مؤسسا ومديرا لكل من مهرجان البحر الأبيض المتوسط من سنة 1975 إلى سنة 1977 والمسرح الوطني التونسي من سنة 1983 إلى سنة 1987 إلى جانب تأسيسه وإدارته لمهرجان أيام قرطاج المسرحية في دورتها الأولى سنة 1983 والثانية سنة 1985 والثالثة سنة 1987 والرابعة سنة 2001 والخامسة سنة 2003.
كما ساهم في تأسيس مسارح وطنية عربية بكل من دول قطر سنة 1970 والكويت سنة 1984 والإمارات سنة 1982 ومخرج باكورات أعمالها قطر المتمثلة في «رحلة جحا» والكويت: «السؤال» والإمارات: «دوائر الخرس» ..
وكان الراحل أيضا مديرا لعدد من المؤسسات الثقافية منها دار الثقافة ابن رشيق من سنوات 2000 إلى 2003، وكذلك المركز الوطني للفنون الدرامية بالكاف من سنة 1996 إلى سنة 2000 وكانت له المساهمة في تأسيس منظمات عربية دولية من بينها الاتحاد العام للمسرحيين العرب ببغداد و في العراق كأمين عام منتخب سنة 1985..
كما كان مديرا للاتحاد العام للفنانين العرب بالقاهرة وبمصر كنائب الرئيس منتخب سنة 1986، زد على ذلك عضويته باللجنة الثقافية القومية بتونس وعضويته بمجلس إدارة بيت الحكمة بتونس وعضويته كذلك باللجنة القومية للتوجيه المسرحي بتونس أيضا وكان مستشارا لدى بلدية تونس «منتخب»..

كلمات لن تمحى...

* المسرح هو حياة يومية للشعوب
* المسرح هو بناء إنسان حي يحمل فكرا نقديا، وإنسان متنور، في مشاعره رقة وفي أحاسيسه رهفة، وفي عقله حكمة وفي سلوكه آداب.
* تونس ولّادة وليست عاقرا وهي كاسرة الجبابرة وقادرة على إيجاد الإنسان الثائر.
* الدواعش كفرة لأنهم يتكلمون باسم الرب والإله والله لم ينوبهم في شيء، ولم يعطهم صك الغفران حتى يتولوا هم النيابة عنه وهو الحق والحب والخير والتسامح والجمال وليس القتل والتقتيل والرعب..
* نحن الفنانون لا نموت

من أعماله الخالدة..

لقد كان الراحل المنصف السويسي مخرجا وسنوغراف ودراماتورج لأكثر من 50 عملا مسرحيا وقع تقديم عروضها الأولى في إطار مهرجانات دولية بكل من قرطاج والحمامات ودمشق وبغداد والقاهرة والجزائر والرباط ورومانيا والمجر وألمانيا وإيرلندا وفرنسا ..
كما نالت أعماله جوائز دولية مختلفة ومن بينها «لاك عرفي ولاني صانعك» و»الهاني بودربالة» و»راشومون حوكي وحرايري» و»الزير سالم» و»كل فول لاهي في نوّارو» و»عشروت» و»مهاجر بريزبان» و»البيادق» و»ثورة الزنج» و»الحلاج» و»الأخيار» و»أليف لا شيء عليه» و»مكبث» و»اللغز» و»عطشان» و»من أين هذه البلية؟» و»مولاي السلطان الحسن الحفصي» و»ثورة 1964» و»حكاية شعب» و»صائفة 1926» و»السندباد» و»سيدي بنادم» و»باي باي لندن» و»مدينة المقنعين» و»يا ثروة في خيالي» و»باي باي عرب» و»النمرود» و»الحجر الأسود» و»طورغوت» و»شكسبير آش جابو لينا؟» الخ...
هذا إلى جانب إنجازه لعدد من الأعمال السينمائية والتلفزية المتنوعة، ومساهمته في عدة مؤتمرات وندوات علمية دولية في الثقافة عموما والمسرح بالخصوص..
تحصّل على أوسمة الاستحقاق الثقافي من تونس ودول عربية أخرى كسوريا والعراق ومصر إلى جانب حصده على الجائزة القومية للفنون والآداب بتونس، كما وقع تكريمه في عدّة مناسبات في دول عربية وأجنبية باعتبار مبدعا ومسرحيا وذلك في كل من إيطاليا واسبانيا والمغرب ورومانيا والكويت والجزائر ومصر والعراق والأردن وسلطنة عمان واليمن

.. ماذا قال عن «دراما» الذي تمنى أن يكون خاتمة وتتويجا لأعماله؟

في وثيقة تقديمية للمشروع الضخم الذي تمنى أن يكون خاتمة أعماله الفنية المتمثل في مسرحية «دراما» نص سيناريو الإعلامي المنصف بن مراد، قال الراحل المنصف السويسي أن هذا العمل الإبداعي المبتكر «هو في الأساس نص درامي ينتصر للحياة والجمال ضدّ ذئبية البشر..
«دراما» لا تخلو من جرأة الخيال باطنها الحس المرهف ورقّة المشاعر وظاهرها مد وجزر بين إنسانية البشرية وحيوانيتها في حركة لولبية لساديّة الأجساد وعذبات الأرواح لذلك كله وغيره يتطلب هذا العمل الراقي حضورا قويا ومكثّفا لمجموع من المبدعين المتحمسين والمقتدرين من مختلف الاختصاصات الإبداعية لخوض مغامرة فنية رائعة تتطلب إمكانيات تقنية وركحية متطورة ومعاصرة وخاصة بحثا وتجريبا مختبريا سلاحه المعرفة والخبرة وركوب المغامرة للإبداع الحق»..

أمنيته ورسالته

في إطار حديثنا عن المسرحي الكبير المنصف السويسي، نذكر انه كشف لنا في حديث أجرته معه الجمهورية منذ أشهر عن أمنيته التي تمنى أن تحقق والتي تمثلت في تشييد مسرح في كل فضاء سكاني يتجاوز عدد متساكنيه الـ20 ألف نسمة، مشددا على ضرورة أن تكون لدينا مسارح لأنها هي خير ما ينقذ البلاد ويخرجها من كل الأزمات.. كما أضاف الراحل انه يجب الخروج من «التحوريك» الثقافي والاتجاه السريع نحو الحراك الثقافي العميق حتّى تصبح المدينة في المسرح والمسرح في المدينة ونرى جمهورا يكرس حضوره فيه ويطالب به عند كل غياب. وأضاف: «المسرح هو حياة يومية للشعوب». وفي ذات السياق توجه المسرحي الكبير الراحل عبر أعمدتنا برسالة مؤثرة مفادها انّ تونس لن تستطيع الخروج من الحالة المتردية التي آلت إليها إلّا بثورة ثقافية كبيرة في كل المستويات والميادين يكون المسرح محورها، وإلاّ فإنّ ثورتها لن تكون إلا مجرد انتفاضة ستختفي بعد أن يلتهمها ويبتلعها السارقون وفق تعبيره.

ثالوث الغول والعنقاء والعبيثة

أفادنا الراحل المنصف السويسي أنّ ما يزعجه هو غياب النخب في مجتمعنا التونسي سواء كانت ثقافية أو سياسية عن الوعي وعن الإدراك، قائلا «بل لكأنها باتت لا تعرف عدوها اللدود المشترك والذي يتمثل في ثالوث الغول والعنقاء و»العبّيثة».. فالغول هو عصور الانحطاط التي ورثناها والعنقاء هي الجهل، وأما «العبّيثة» فهي التخلف.. هذا الثالوث المرعب الذي يحيط بنا ويحاصرنا ويدمر كل كياننا وكل بنائنا وظاهرنا وباطننا».

 علاقته بالحياة والموت

 خلال إجابته عن سؤال طرحناه عليه في السابق حول علاقته بالحياة والموت قال لنا الفقيد التالي: «نحن جئنا لكي نذهب وأنا أسأل دائما عن الفرق بين الحياة والموت.. فلا احد منّا يعرف ذلك وربما تكون الحياة وهما، والموت واقعا ماديا ملموسا أكثر من الحياة. وربما يكون حياة أخرى أجمل وانفع وأريح».. وتابع «بصراحة فإنّ الحياة اليوم لم تعد تعجبني ولا تروق لي بعد أن عشت أجمل الفترات في ما يسمى بالزمن الجميل، خلال عهد الستينات والسبعينات عندما كانت الحياة أجمل وأفضل وأحسن. وقتها كان هنالك مشروع بناء دولة وتحرر وطرد للاستعمار، حين وقع إنتاج الذات التي استفاقت على ذات موضوعية انخرطت في مشروع بناء حضارة وثقافة ومجتمع إنساني عظيم ركزه الزعيم الحبيب بورقيبة على الثقافة والتربية»..

ماذا قال عن المرض؟

فقيد الساحة الثقافية التونسية وفقيد كل التونسيين قال عن المرض انّه صعوبة من الصعوبات التي تجابهنا وينبغي أن نتصارع معها، باعتبار أن الحياة صراع منذ الولادة حتى المغادرة، مشدّدا على انه يحب الموت ولا يخشاه لأنه ينتظر اكتشاف عوالم أخرى وكله شوق لرؤيتها واكتشافها.. وقال انه بالنسبة له من يموت هو الحيوان، أما الإنسان فلا يموت أبدا خاصة إن ترك أثرا يخلّده من بعده.. لذلك فالفنانون لا يموتون أبدا..
في ختام هذه المساحة التي لن تفي هذا المسرحي الرمز المحب للثقافة والعاشق للوطن والشغوف بالإنسان التونسي المفكر لن تفيه حقّ قدره، ليس لنا إلاّ ان نتقدم بأحر التعازي لأهل وذوي الفقيد الراحل المنصف السويسي ولكل التونسيين لفقدانهم عمودا من أعمدة البلاد.. ورحم الله الفقيد إنّا لله وإنّا لله راجعون....

ملف من إعداد: منارة تليجاني